الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد **
الأقسام: مصدر أقسم يقسم إذا حلف. والحلف له عدة أسماء، هي: يمين، وألية، وحلف، وقسم، وكلها بمعني واحد، قال تعالى: واختلف أهل العلم في {لا} في قوله: {لا أقسم}. فقيل: إنها نافية على الأصل، وإن معني الكلام: لا أقسم بهذا الشيء على المقسم به، لأن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم، وهذا فيه تكلف، لأن من قرأ الآية عرف أن مدلولها الإثبات لا النفي. وقيل: إن {لا} زائدة، والتقدير أقسم. وقيل: إن {لا} للتنبيه، وهذا بمعني الثاني، لأنها من حيث الإعراب زائدة. وقيل: أنها نافية لشيء مقدر، أي لا صحة لما تزعمون من انتفاء البعث، وهذا في قوله تعالى: والإقسام على الله: أن تحلف على الله أن يفعل، أو تحلف عليه أن لا يفعل، مثل: والله، ليفعلن الله كذا، أو والله، لا يفعل الله كذا. والقسم على الله ينقسم إلى أقسام: الأول: أن يقسم على ما أخبر الله به ورسوله من نفي أو إثبات، فهذا لا بأس به، وهذا دليل على يقينه بما أخبر الله به ورسوله، مثل: والله، ليشفعن الله نبيه في الخلق يوم القيامة، ومثل: والله، لا يغفر الله لم أشرك به. الثاني: أن يقسم على ربه لقوة رجائه وحسن الظن بربه، فهذا جائز لإقرار النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذلك في قصة الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك رضي الله عنهما، " حينما كسرت ثنية جارية من الأنصار، فاحتكموا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالقصاص، فعرضوا عليهم الصلح، فأبوا، فقام أنس بن النضر، فقال: أتكسر ثنية الربيع؟ والله يا رسول الله لا تكسر ثنية الربيع. وهو النضر، فقال: أتكسر ثنية الربيع؟ والله يا رسول الله لا تكسر ثنية الربيع. وهو لا يريد به رد الحكم الشرعي، فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: فلما عرفوا أنه مصمم ألقي الله في قلوب الأنصار العفو فعفوا، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ويدل أيضًا لهذا القسم قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: القسم الثالث: أن يكون الحامل له هو الإعجاب بالنفس، وتحجر فضل الله عز وجل وسوء الظن به تعالى، فهذا محرم وهو وشيك بأن يحبط الله عمل هذا المقسم، وهذا القسم هو الذي ساق المؤلف الحديث من أجله. * مناسبة الترجمة لكتاب التوحيد: أن من تألي على الله عز وجل، فقد أساء الأدب معه وتحجز فضله وأساء الظن به، وكل هذا ينافي كمال التوحيد، وربما ينافي أصل التوحيد، فالتالي على من هو عظيم يعتبر تنقصًا في حقه. عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: قوله: " قال رجل ". يحتمل أن يكون الرجل الذي ذكر في حديث أبي هريرة الآتي أو غيره. قوله: " والله لا يغفر الله لفلان ". هذا يدل على اليأس من روح الله، واحتقار عباد الله عند القائل، وإعجابه بنفسه. والمغفرة: ستر الذنب والتجاوز عنه، مأخوذة من المغفر الذي يغطي به الرأس عند الحرب، وفيه وقاية وستر. قوله: " من ذا الذي يتألي على أن لا أغفر لفلان ". " من ": اسم استفهام مبتدأ، " ذا " ملغاة، " الذي ": اسم موصول خبر مبتدأ، " يتألي ": يحلف، أي: من ذا الذي يتحجر فضلي ونعمتي أن لا أغفر لمن أساء من عبادي، والاستفهام للإنكار. والحديث ورد مبسوطًا في حديث أبي هريرة أن هذا الرجل كان عابدًا وله صاحب مسرف على نفسه، وكان يراه على المعصية، فيقول: أقصر. فوجده يومًا على ذنب، فقال: أقصر. فقال: خلني وربي، أبعثت على رقيبًا؟ فقال: والله، لا يغفر الله لك. وهذا يدل على أن المسرف عنده حسن ظن بالله ورجاء له ولعله كان يفعل الذنب ويتوب فيما بينه وبين ربه، لأنه قال: خلني وربي، والإنسان إذا فعل الذنب ثم تاب توبة نصوحًا ثم غلبته عليه نفسه مرة أخري، فإن توبته الأولى صحيحة، فإذا تاب ثانية فتوبته صحيحة، لأن من شروط التوبة أن يعزم أن لا يعود، وليس من شروط التوبة أن لا يعود. وهذا الرجل الذي قد غفر الله له، إما أن يكون قد وجدت منه أسباب المغفرة بالتوبة، أو أن ذنبه هذا كان دون الشرك فتفضل الله عليه فغفر له، أما لو كان شركًا ومات بدون توبة، فإنه لا يغفر له، لأن الله يقول: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء: 116]. قوله: " وأحبطت عملك ". ظاهر الإضافة في الحديث: أن الله أحبط عمله كله، لأن المفرد المضاف الأصل فيه أن يكون عامًا. ووجه إحباط الله عمله على سبيل العموم حسب فهمنا والعلم عند الله: أن هذا الرجل كان يتعبد لله وفي نفسه إعجاب بعمله، وإدلال بما عمل على الله كأنه يمن على الله بعمله، وحينئذ يفتقد ركنًا عظيمًا من أركان العبادة، لأن العبادة مبنية على الذل والخضوع، فلابد أن تكون عبدًا لله عز وجل بما تعبدك به وبما بلغك من كلامه، وكثير من الذين يتعبدون لله بما تعبدهم به قد لا يتعبدون بوحيه، قد يصعب عليهم أن يرجعوا على رأيهم إذا تبين لهم الخطأ من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويحرفون النصوص من أجله، والواجب أن تكون لله عبدًا فيما بلغك من وحيه، بحيث تخضع له خضوعًا كاملًا حتى تحقق العبودية. ويحتمل معني ونظير هذا مما يحتمل العموم والخصوص قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده فيمن منع الزكاة: فقوله: " وشطر ماله "، هل المراد جميع ماله، أو ماله الذي منع زكاته؟ يحتمل الأمرين، فمثلًا: إذا كان عنده عشرون من الإبل، فزكاتهما أربع شياه، فمنع الزكاة، فهل نأخذ عشرًا من الإبل فقط مع الزكاة، أو إذا كان عنده أموال أخري من بقر وغنم ونقود نأخذ نصف جميع ذلك مع الزكاة؟ أختلف في ذلك: فقيل: نأخذ نصف ماله الذي وقعت فيه المخالفة. وقيل: نأخذ نصف جميع المال. والراجح أنه راجع إلى رأي الإمام حسب المصلحة، فإن كان أخذ نصف المال كله أبلغ في الردع، أخذ نصف المال كله، وإلا، أخذ نصف المال الذي حصلت فيه المخالفة. وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد. قال أبو هريرة: قوله: " تكلم بكلمة ". يعني قوله: والله، لا يغفر الله لك. قوله: " أوبقت ". أي: أهلكت، ومنه حديث: قوله: " دنياه وأخرته " لأن من حبط عمله، فقد خسر الدنيا والآخرة. أما كونها أوبقت أخرته، فالأمر ظاهر، لأنه من أهل النار والعياذ بالله، وأما كونها أو بقت دنياه، فلأن دنيا الإنسان حقيقة هي ما اكتسب فيها عملًا صالحًا، وإلا، فهي خسارة، قال تعالى: {والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [العصر: 1-3] وقال: وقوله: " قال أبو هريرة ". يعني في الحديث الذي أشار إليه المؤلف رحمه الله. * فيه مسائل: * الأولى: التحذير من التالي على الله. الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله. الثالثة: أن الجنة مثل ذلك. الرابعة: فيه شاهد لقوله: " إن الرجل ليتكلم بالكلمة.. " إلى أخره. الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه فيه مسائل: * الأولى: التحذير من التالي على الله. لقوله: * الثانية: كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله. * الثالثة: أن الجنة مثل ذلك. هاتان المسألتان اللتان ذكرهما المؤلف تؤخذان من حبوط عمل المتالي والمغفرة للمسرف على نفسه، ثم أشار إلى حديث رواه البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه. أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: * الرابعة: فيه شاهد لقوله: ولا سيما إذا كانت هذه الزلة ممن يقتدي به، كما يحدث من دعاة الضلال والعياذ بالله، فإن عليه وزره ووزر من تبعه إلى يوم القيامة. * الخامسة: أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه. فإنه قد غفر له بسبب هذا التأنيب، وهذه لم تظهر لي من الحديث ولعلها تؤخذ من قوله " قد غفرت له ". ولا شك أن الإنسان قد يغفر له بشيء هو من أكره الأمور إليه، مثل الجهاد في سبيل الله، قال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم} [البقرة: 216].
***
|